فيصل مصطفى يكتب: عالم متعدد الأقطاب

الكاتب الصحفي فيصل مصطفى
الكاتب الصحفي فيصل مصطفى

يبدو أن عام ٢٠٢٤ هو عام المتغيرات الكبرى فى التاريخ السياسي، ليس لأوروبا وحدها، وإنما ربما يكون للتاريخ الإنساني كله.

وهذا الكلام ليس به أدنى مبالغة، فلقد شهد العامين الماضيين ٢٠٢٢ و٢٠٢٣، بعض الأحداث السياسية التاريخية الهامة التي سيتوقف عندها التاريخ السياسي في القرن الـ ٢١، ففى فبراير ٢٠٢٢، حدثت الحرب الروسية الأوكرانية، وفي ٧ أكتوبر ٢٠٢٣ ، شاهدنا انطلاق انتفاضة طوفان الأقصى في حدث جلل ضخم رئيسي في مسيرة القضية الفلسطينية منذ نشأتها وتفجرها فى ١٩٤٨ وحتى يومنا هذا.

واستمرت التداعيات التاريخية في العام الحالي ٢٠٢٤، حيث شهد مجموعة من المتغيرات السياسية العميقة، والتي لم يسبق حدوثها من قبل، بدأت بإحالة إسرائيل لمحكمة العدل الدولية، ثم إحالة ٢ من قادتها إلى محكمة الجنايات الدولية ومحاكمتهما كمجرمي حرب، وشهدت إدانات متكررة لها من الأمم المتحدة، ثم شهدت الحدث الأكبر والأخطر من نوعه وهو الصعود القوي للتيارات الوطنية القومية الأوروبية المتطرفة، والتي تسمى في العلوم السياسية بتيارات اليمين المتطرف، وتسمى في لغة الخطاب السياسي الأوروبي بالتيارات الوطنية القومية، أو ما يطلق عليهم القوميون . 

وقد جاء صعودهم في الانتخابات الأوروبية الأخيرة  في العديد من البلدان الأوربية في وقت واحد، وشمل فرنسا وألمانيا وإيطاليا والنمسا وهولندا وغيرها، وهو ما يعني تراجع القوى السياسية التقليدية التي سيطرت على المشهد السياسي الأوروبي مما بعد الحرب العالمية الثانية وحتى العام الحالي، أي أنها سيطرت على المشهد السياسي الأوروبي التقليدي على مدار أكثر من ٧٥ عاما، وهو ما يعني حدوث ثورة سياسية حقيقية بكل ما تحمله الكلمة من معنى في النظام السياسي الأوروبي، وهو ما سوف يترتب عليه تغييرات عميقة، ليس في الداخل فقط على صعيد المجتمعات الأوروبية، وإنما سوف يترتب عليه تغييرات عميقة أيضا على صعيد السياسات العالمية.

فعلى المستوى الداخلي، في حالة تمكن قوى القومية المتطرفة بتشكيل الوزارة والحصول على الأغلبية،  فإنه من الأرجح أن تتشكل الحكومات من هذه القوى، وهي قوى تتسم بالوطنية الشديدة إلى درجة التعصب، وسوف يترتب عليها تغييرات منها إعادة النظر في اللاجئين والمهجرين من مختلف بقاع ودول العالم،  وإعادة النظر في حاملى الجنسيات الأوروبية، بما سوف يترتب على ذلك من تغيير عميق في السياسات الاقتصادية والاجتماعية ، وفي العديد من القوانين المنظمة للحياة، ولحركة المجتمعات في هذه القارة العجوز. 

أما على مستوى السياسات العالمية، وهو الأمر الخطير وبحق ، فسوف يؤثر تأثيرا إيجابيا وفعالا على أهم قضيتين مشتعلتين الآن في العالم، وهما قضيتا فلسطين وأوكرانيا.

على الصعيد الأوكراني، هذه التيارات، تعلن بوضوح إنها ليست في حالة عداء ولا حرب مع روسيا الاتحادية، بل بالعكس، هي تميل إلى عدم إعلان صراع أو عداء مع روسيا، وتميل إلى الالتزام بعلاقات طيبة معها  وغيرها من القوى العالمية الأخرى المناوئة بشكل أو بآخر لأمريكا، كما أن هذه القوى أيضا تأخذ نفس الموقف الصارم من إسرائيل، وترى أن الصهيونية خطرا على أوروبا وعلى السلام العالمي، وترى أن من حق الفلسطينيين العودة إلى ديارهم والعيش في وطنهم . 

ومن هنا، فإنه قد يترتب تغيرات جذرية حقيقية في السياسات الأوروبية، سواء على صعيد القضية الفلسطينية، بما يؤدي إلى مزيد من نجاحها وتألقها، وإلحاق خسائر سياسية متتالية  بالإسرائيلين في المحافل الدولية ، مع تغير حقيقي في مواقف العديد من الدول الأوروبية في هذه الحالة ، وقيامها بالاعتراف بدولة فلسطين على غرار الدول الأربعة الأوروبية التي اعترفت بها، وليس مستبعدا في هذه الحالة أن نجد عدد لا يقل عن ١٠ دول أوروبية قد اعترفت بدولة فلسطين، وهو ما يشكل لطمة تاريخية قوية لإسرائيل غير مسبوقة ، ولأول مرة تتعرض لها منذ إنشائها في 48، وقد يترتب على ذلك، وهذا هو الأخطر، اضمحلال النفوذ الأمريكي في القارة الأوروبية ، وتراجع في إمكانية واستمرارية حلف الناتو الذي سوف يتعرض للتصدع بدوره خاصة وأن هذه القوى تعلن بصراحة ووضوح رفضها للهيمنة الأمريكية واستقلاليتها عن القرار الأمريكي، وهو ما قد يجعل حلف الناتو في موقف صعب، واستمراره ومستقبله محفوظ بالمخاطر، بل أصبح هناك شك كبير في إمكانية استمراره في المراحل القادمة، لو استمر الحال على هذا المنوال، هذا  يعني تضاؤل النفوذ الأميركي عن قارة أوروبا ، وبالتالي إضعافها في صراعها التاريخي الحالي مع روسيا والصين. 

أن صعود الأحزاب القومية المتطرفة في أوروبا إلى سدة الحكم ، يعني الكثير ويعني بداية مرحلة جديدة ومخيفة بالنسبة لأميركا ومصالحها، مرحلة قد تؤدي إلى تغيير كامل وجذري وحقيقي في الخريطة السياسية الدولية والعالمية بدءا من نهاية الربع الأول من القرن الـ ٢١، ويعني أيضا أن القرن الـ ٢١، قد لا يكون قرنا أمريكيا لو استمر الموقف على ما هو عليه ،  وقد يعني نظام عالمي جديد ، يقوم على أقطاب متعددة متساوية في القوة تماما ، لدرجة قد تنهي أسطورة سيطرة القطب الأوحد على العالم نهائيا، والتي تأثرت بالفعل في ال ٢٠ عاما الماضية، حتى أصبح يمكن القول بكل ارتياح، أن العالم تحكمه الآن ٣ أقطاب عالمية، وهي أميركا وروسيا والصين، حتى لو تفاوتت القوة والتأثير والنفوذ بين البلدان الثلاثة، إلا إننا يمكننا القول أيضا أنه حتى هذه الصورة قد لا تستمر لسنوات قليلة ، وقد تتغير وتتبدل إلى عالم متعدد الأقطاب بالفعل. قد يشمل من ٧ إلى ١٠ قوى، وأقطاب عالمية موزعة على قارات الدنيا المختلفة، وقد لا نستبعد أن تكون أفريقيا إحداها، ولما لا.

العالم يتغير، الانتخابات  الأخيرة بنتائجها تثير الرعب لدى الأجهزة ومؤسسات الحكم في واشنطن ، تصرف الرئيس الفرنسي السريع بحل برلمان بلاده، جاء محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، لكن الأمور لن يجدي معها  حل برلمان ولا قرار رئاسي، فالدنيا تتغير بحق، والمتغيرات العميقة تتوالى، وربما  تكون تضحيات الشعوب وشهدائها ودمائها هي السبب الرئيسي والأساسي في حجم هذه المتغيرات الخطيرة العميقة، والتي تشمل أكبر دول العالم الآن، وسوف تؤدي إلى تغير في الخريطة السياسية للعالم أجمع بقاراته الست، نحن ربما نكون محظوظين، إننا نعيش في مرحلة تحول تاريخي خطيرة لم تحدث في العالم منذ قرن أو أكثر، وربما سوف يتوقف عندها التاريخ كثيرا و يحلل ويٌدرس هذه المرحلة التى تشهد تغييرات عميقة، ليس بسبب الغزوات الاستعمارية، كما اعتادت البشرية في القرون الماضية، وإنما بسبب تضحيات وعطاء الشعوب .

[email protected]